مدخل :ربما من الطبيعي أن نأخذ قصة كفاح واتفاق بين أصدقاء ، بين أخوان ، وهذا هو الطبيعي ، أن نتعاون لنبني بيتاً ، لنحقق أملاً ، لنرسم بسمة على شفاه أدمنت الوجع والدمع ، نتعاون كي نرد جميلاً يطوق أعناقنا ، ما أكثرها صور التعاون وما أعظمها . لكني اليوم سأكون مختلفة ربما لن أفلح في تسطير أي صورة من تلك الصور بمفردها ؛ قد أكون جمعت كل الصور ، فهنا أبني بيتاً ؛أحقق حلماً ؛ أرسم بسمةً ضلت طريق الشفاه فأرد ديناً ربما ما وفيناه مهما بقينا . عذراً للإطالة دعوني ألقي الضوء على أبطالي.
حكاية وطن
حكايتنا تبدأ من الصفر حين ولد الطفل يتيم يوم دُفن والده شهيداً ، يوم انضمت أمه لأسر الثكلى وانضم هو لقافلة اليتامى ، ولا عذراً لكل هذا سوى أنه وُلد يبحث عن وطنٍ يحتويه ، فوجد الوطن مسلوب الهوية ، منزوع الملكية ، متشتت الأفكار ، متفرق الأحزاب ، وهو ضائعٌ بين هذا وذاك ، بين حلم رسمه أبوه في خياله وبين واقع يأبى مفارقة العتمة وظلمة الإنصاف ، هو هناك في الركن الصغير بغير ألوان ينظر هنا فإذ بهذا ينادي بالبقاء حتى الموت ، ويحفر قبره بيده ويودع أهله لـ يرحل
وينظر هناك فإذ بهذا يرتب حقائبه وينادي بالرحيل ،ينادي بالحياة بدلاً من الموت البطيء ، ويودع جدران البيت المهدد بالإزالة لأنه على حدود مستوطنة وأهلها يحتاجونه ليبنوا عليها ملهى ليلي ، يودع البيت ليأخذ أهله ويرحل ، وهو يقف عاجزاً عن التفكير أيهما الأصح والأصدق ؟! أن أحفر قبري بيدي وأستعد للموت بأي لحظة و بلا ذنبٍ ليس إلا أنه على أرضٍ يطمع فيها غيره ، أم أن يرحل ويترك حلمه قبل أن يتحول لكابوس يـُهد أمام عينيه ويأخذهم معه تحت الأنقاض ، الطفل يبحث عن الحقيقة ، والاتجاهين الذي يراهما يعيشان معه وبذات البيت ، أخوته كل أخ منهم في اتجاه منهم من يبحث عن حلمه خارج أسلاك الوطن الشائكة ، ومنهم من يبحث عن حلمه داخل وطنٍ أسير المؤتمرات والمؤامرات ، كلاهما يبحث عن حلمه لأجل الوطن لكن أي حلمٍ ذاك الذي أصح ؟! أن أبقى لأموت وأقول حققت حلمي بالبقاء ، أم أن أرحل لأحيى فأعود لها بالمال والعدة والعتاد علي أحررها من أسرها ، كلاهما يحلم ، فلا بالبقاء حتى الموت يعيد الهوية ، ولا الرحيل لجني المال ثم العودة يضمن لها الحرية ، ظل الطفل ينظر لأخويه ، لجاريه ، لأبناء بلده ، للأسف لكل من حوله ، فجميع من في بلده غير مستقر.
يفكر الطفل في فكرة تجعل القلبان قلبٌ واحد ، والعقلان عقل ٌ واحد ، والجسدان بروح ٍ واحدة ، يبحث الطفل حوله ليجد مخرجاً للمأزق الذي بات فيه ، ليجد حلاً لبلده التي باتت بألف فكرٍ وألف رأيٍ وكلٌ يرى نفسه الأحق بالإتباع وكأنه خليفة الله على الأرض ، لا شيء معه سوى إيمان ويقين بأنه لابد أن يجمع المشرق والمغرب بكفٍ واحدة لتشرق شمس الحرية بغير غروب ، أخذ يقلب بكتبه المدرسية عله يجد حجة يقنع بها من حوله برأيه بأن التوحد في الرأي ؛ التعاون في العمل ، هو اكتمال ٌ للجسد الواحد ليقوى ويقاوم كل الأمراض ، لم يجد شيئاً يقنعه ليقنع أخوته ، بيوم سمعوا منادي ينادي ويحذر جميع السكان بترك بيوتهم فهناك اشتباه بأن فيها مخزن للسلاح ، ينادي الجندي المحتل ويهدد السكان ينظر الطفل لأخيه المنادي بالبقاء ويسأله " هل نبقى لنموت وتساوى جثثنا بالتراب " وينظر لأخيه المنادي بالرحيل " هل نرحل ونترك البيت قهراً ،نترك حقنا وأيامنا دون حتى الوداع " وبلا إجابة ينظر الأخوة للطفل ، الطفل الذي يمثل الوطن ، يمثل الحلم ، يمثل التمسك بالحق ، والحياة أول الحقوق وأهمها ، يشد الأخ على يد أخيه وبينهما الطفل يدٌ تتجه للمشرق وأخرى للمغرب ، والطفل بينهم مرخيّ الأضلع ، هذا يشد وهذا يشد وهو ينظر إلى متى سنبقى هكذا صرخ فيهم إلا أن نموت كالقطط دون حتى مقاومة يا أخي ، دون أن يكون لنا الحق أن نعود لأطلال بيتنا يا أخي ، إلى متى يصرخ الطفل في وجههما ويشدهما للأسفل ، فوجدوا كل سكان البيت صامدين أمامه لا يرحلون ، يطالبون بالموت إن لزم الأمر ، فالادعاء كاذب وليست هناك أسلحة ولا توجد حجة للهدم سوى مطامعهم .
شد الطفل أخويه ووقفا بالصف الأمامي ، لا الراحل استطاع الرحيل ، ولا المستسلم استطاع التزام الصمت ، صرخ الطفل وردد السكان خلفه ، إما الحياة بكرامة وإما الموت ، ينظر الجنود للسكان ، ينادوهم يهددوهم ، نظرات السكان خائفة لكن الطفل يشد على يديّ أخوته ، ويصرخ ليرددوا معه إما الحياة بكرامة وإما الموت ، لا يستطيع الجنود هدم المنزل وبه كل هؤلاء السكان خاصة أن صوت الطفل وأخويه لفت انتباه الجميع فمن كان يحاول أن يهرب بما معه عاد أدراجه ليساندهم ، ومن كان يحاول أن يستسلم رفع رأسه ووقف صامداً ، اليد باليد اصطفت ، والكتف بالكتف ، الأنظار غير مشتتة جميعها للسماء .. لله تتجه ، جميعها تنادي برحمة الله ، السكان باتوا صوتاً واحداً يهز الأرض فيحرك دبابات العدو فيعلوا صوتهم على صوت مكبراتهم ، وما عادوا يسمعوا نباحهم وتهديداتهم ، الطفل وسط كل هذا ينظر حوله يبتسم وكأنها ابتسامة النصر لأنه استطاع أن يجمعهم جسد واحد وروحٌ واحدة ، قلب واحد وفصيلة واحدة ، ولون الدم يوحدهم ، وحلم البقاء بكرامة يجمعهم على مائدة الحق ، نظر الجنود لهم دون أن يجدوا حلاً كلما اقتربوا من المنزل علت أصواتهم ، كلما علا نباح مكبراتهم قويت عزيمتهم ، نظر الجندي إليهم وكأنه عرف سر قوتهم ، صوب بندقيته لقلب الطفل ، وأغتاله وسط أهله يده اليمين في يد أخوه ، ويده اليسار في يد الآخر ، تمزقت يداه ، لكن لم تتمزق وحدتهم وتعاونهم فعادوا لشبك أيديهم والدمع يهطل مطراًَ والصوت يعلوا قهراً ، ربما مات الطفل لكن ما زرعه فيهم من الحب والتعاون لم يمت ، بقي السكان اليد باليد والكتف بالكتف ، أمام جبروت الظلم والطمع ، ظن الجندي أنه إن قتل الطفل تمزقت الأربطة لكنه أخطأ فقد ازدادت قوتهم لأنه حين ابتسم في وجههم تمتم بكلمات ٍ تقوهم" الحياة ليست بقاء أم رحيل ، الحياة أيدٍ تـُشد وحلم ٍ تتقاسمه الأعين ، الحياة رغيف ٌ إن اقتسمناه أكفانا وإن طمِعنا فيه متنا جائعين" كلمات كان يدندن بها وكأنه كان يدرك مؤامرة الجندي عليه فأراد أن يـُفشل محاولاته
ربما مات الطفل لكن زرعه لم يمت ... رحل الجنود، ولم يهدوا البيت، لم تستطع قوتهم أن تهده أمام وقفة أهله، وتعاونهم لأجل البقاء، البقاء بكرامة.كما علمهم الطفل ، كما علمهم الوطن .
مخرج :
للأسف ...! ليست من واقعي أنما حلم يراودني مثلما يراود الجميع، الحلم بان نكون جسداً واحدا إن اشتكى منه عضوٌ تداعى له باقي الأعضاء بالحمى والسهر.... ليست من واقعنا لكنا نسعى إليها، نبحث عن الطفل الضائع الذي يجعلنا صفاً واحداً، نبحث عن الفلاح الذي يزرع فينا حب الغير لنحب أنفسنا، عن الشمس التي بسواعدنا نجعلها تشرق ولا تغيب. تمنيت أن أكتب غير ذلك لكني لا أستطيع أن أفصل قلمي عن جسدي ... والوطن هو الجسد الأعظم